مازال العالم يعيش على وقع الخلاف الأمريكي الصيني، ولم يعد يخفى على احد أن ما يجري بين الصين والولايات المتحدة شبيه جدا بالحرب الباردة، وما الأزمات المالية التي يحياها العالم اليوم إلا وقع صدى لهذه الحرب القائمة بين أمريكا والصين في محاولة كل واحدة منها التفرد بالصدارة في قيادة العالم، فكل المحاولات التي تحاول تخفيف الوتر بين البلدين تبوء بالفشل حتى اليوم، وهذا الخلاف ينعكس على الحلفاء، وعلى رأسهم في منطقة الشرق الأوسط دول الخليج العربي نبع الثروة، والحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة، ولكن بدأنا نشهد اليوم تغوّلا صينيا في العلاقات التجارية مع منطقة الخليج، وخاصة من ناحية النفط، الذهب الأسود الذي تتمتع بامتلاكه دول منطقة الخليج العربي.
بدأت الخلافات بين الولايات المتحدة والصين تطفو على السطح في منطقة الخليج مع التصريحات الاخيرة لأحد المسؤولين الإماراتيين الذي تحدث عن إغلاق إحدى المنشآت التي كانت تستثمرها الصين في الإمارات، وذكرت تقارير الاستخبارات الأمريكية إنها تمثل بداية بناء قاعدة عسكرية صينية على أرض الإمارات.
آخر المنافسات حصلت منذ أيام في مسألة تجديد ميناء (الشيف) الذي يصادف هذا العام الذكرى الستين لافتتاحه، والذي يعد نقطة بدء الثراء النفطي الإماراتي، فقد خسرت الصين المنافسة في الحصول على المناقسة وأعلنت عن انزعاجها في هذه الخسارة، وادعت أن الأمر حصل نتيجة ضغوط على الإمارات، في حين أنكر الإمارتيون هذا الأمر، وقالوا إننا نعطي المناقسة وفق ما يتحقق لنا من عروض تحقق الشروط المطلوبة، وأن المنافسة هنا بين الشركات في الميزات التي تقدّمها، لا في الضغوط التي تمارس علينا.
لماذا تتجه دول الخليج نحو الصين:
بعد ان سقطت العراق وانتهى حكم صدام حسين، في 2003، وبعد الخسائر المالية الكبيرة التي منيت بها الولايات المتحدة نتيجة حروبها الخارجية، وجدت سياسة جديدة بدأت مع أوباما تميل إلى تخفيف تسليط القوة الأمركية على الشؤون الخارجية، والانكفاء نحو الداخل، والتركيز على عدو واحد وهو العملاق الصيني، هذا الأمر أدّى إلى تخوّف الكثير من الدول الخليجية من عدم استمرار الدعم العسكري الأمريكي لها كما كان في السابق، خاصة مع ظهور خطابات ترامب الذي أكد أن على الحلفاء الخليجيين أن يتولوا أمر حماية أنفسهم بأنفسهم، هذا الأمر شرع الباب أمام الخليجيين لعقد تخالفات مع دول كبرى، ولا يوجد دولة كبرى منافسة للحليف الأمريكي الإستراتيجي سوى الصين، الذي لا يعتبر قوة عسكرية وحسب، بل سوقا اقتصاديا لا يستهان بها من ناحية استيراد النفط والغاز من منطقة الخليج.
فبحسب ما أوردته وكالة الأناضول فإن نسبة تصدير النفط من السعودية إلى الصين زادت 24 بالمئة سنة 2021، وبذلك بقيت السعودية محافظة على أنها المصدر الأكبر للفنط إلى الصين في العالم.
وفي العام نفسه وقعت الصين وقطر اتفاقية لزيادة معدل استيراد الغاز القطري، وأكدت الإمارات على لسان سفيرها في الصين مقولة: “الصديق وقت الضيق” بأنها تنطبق على الصين التي تعد اكبر شريك تجاري استراتيجي لبلاده.
كل هذا يرجع إلى الانكفاء الأمريكي عن الانخراط العسكري والدفاع عن الخليج، وبدت ملامحه في كثير من التغييرات التي قامت بها الولايات المتحدة في منطقة الخليج عسكريًّا، فقد بدأت الولايات المتحدة في تقليص الأنظمة المضادة للصواريخ التي نشرتها في أعقاب الهجمات الصادمة ضد شركة أرامكو السعودية في سبتمبر 2019. وتشمل هذه الإجراءات سحب ثماني بطاريات باتريوت المضادة للصواريخ من المملكة العربية السعودية والعراق والكويت والأردن. كما سيتم سحب نظام ثاد (المحطة الطرفية للدفاع عن منطقة الارتفاعات العالية) من المملكة العربية السعودية ، في حين سيتم تقليل أسراب المقاتلات النفاثة أيضًا.
إلى أين تتجه الأمور:
يبدو أن الدول الخليجية تسعى لإيجاد توازن في علاقاتها بين الحليف الإستراتيجي المتمثل بالولايات المتحدة وحلفائها، وبين الصين المنافس القوي للولايات المتحدة في العالم، فالحليف الصيني يمثل بوابة تجارية دائمة بالنسبة للدول الخليجية التي تصدع اقتصادها في فترة قلة الطلب على النفط، كما أنها تستفيد بعلاقتها مع الصين في مشاريع البنية التحتية التي دخلت فيها الشركات الصينية بقوة في منطقة الخليج.
وهذا الأمر المنفعي هو حالة تشاركية بين الصينيين والخليجيين، حيث إن الصين تريد أن تستثمر موقع شبه الجزيرة العربية في مشروعها الكبير المعروف عالميًّا باسم طريق الحرير، فتعد سواحل هذه البلاد نقطة محورية في طريق الحرير البحري الصيني. ولهذا فإننا صرنا نجد من يشير إلى قضية التواؤم بين مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومبادرة 2030 التي أطلقتها السعودية، القوة الأكبر في منطقة الخليج العربي.
هل ثمة خطر إستراتيجي على النفوذ الأمريكي:
لا يبدو أن الوجود الصيني يمثل خطرا جيوسياسي على الوجود الأمريكي إلى اليوم، خاصة أن الصين تركز على الوجود الاقتصادي لها في المنطقة، ولكن آخر ما نشر عن قضية بدء الصين بتأسيس قاعدة عسكرية لها في الإمارات وفق موقع الحرة، فإن هذه تعد أول ملمح عسركي للصين في المنطقة، رغم نفي الإمارات أن تكون هذه النقطة التي اختارتها الصين هي قاعدة عسكرية صينية أو نواة لقاعدة عسكرية صينية.
ويرى بعض المحللين الأمريكيين أن الصين لا تمتلك القدرة البحرية التي تؤهّلها لتشكيل تهديد جيوسياسي للولايات المتحدة لا في الخليج ولا في شمال أفريقيا.
المنطقة الآن تعيش على وقع صدى الخلافات الصينية الأمريكية، وخاصة مع الحروب التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وعدم استقرار دول كثيرة فيها، إن هذه الحالة تفرض على المتابع ان يكون حذرا في إطلاق الأحكام، فمنذ زمن انسحبت بريطانيا، وقبلها البرتغال، من منطقة الخليج وتغيّرت الأمور جذريًّا في التحالفات العسكرية وفي الدول والقيادات التي تحكمها، مع وجود الحليف الإستراتيجي الجديد الذي مثّلته الولايات المتحدة، ولكن السؤال هل الولايات المتحدة اليوم فعلا تتمتع بالقوة التي تجعلها الوحيدة التي تمثل القوة العسكرية في المنطقة، وهل يمكن الاعتماد عليها في ظل اتجاهها شرقا وخلافاتها مع الصين وحليف الصين الإستراتيجي أي روسيا.
كل هذه القضايا المشتعلة تجعلك تقول إن العالم مقدِمٌ على هزّة كبرى لا نعرف ما هي نتائجها، وأن إرهاصاتها قد بدأت تلوح بالأفق.