كم من مرة وجدت نفسك تنظر إلى شخص تعرفه تمام المعرفة — تعرف كيف كذب، وتسلّق، وتجمّل أمام الناس بما ليس فيه — ثم تراه اليوم يحقق شهرة واسعة، وأرباحًا مالية، وتكريماً من الناس، بينما أنت تغرق في المرض، الجسدي والنفسي، وتشعر أن الأرض ضاقت بك، والألم محيط بك من كل الجوانب، وأنك إن نظرت إلى نفسك فلا ترى سوى التراجع والانكسار؟ هذا الشعور موجع، ينهش الداخل ويطفئ الروح. هذا المقال هو لك. لكل من طحنه وجع المقارنة، لكل من رأى “غير المستحق” يتقدم، وهو يتراجع، سنتحدث بصدق، بعمق، وبواقعية، عن كيفية التحرر من هذه المقارنة القاتلة، وكيف تبني رؤية مختلفة للحياة تنقذك من دوامة الحزن والانهيار.
للراغبين في قراءة كتبنا تحصلون عليها بالضغط على كلمة كتب
أولاً: فهم جذور المقارنة
المقارنة ليست مجرد عادة نفسية سيئة، بل هي انعكاس عميق لخلل في تصوراتنا عن الحياة، والعدل، والنجاح.
- نحن لا نقارن إلا من نعرف: أنت لا تشعر بالحسرة حين ترى مليارديراً لا تعرفه يحقق النجاح، لكنك تنكسر حين ترى زميلك السابق، الذي تعرف حقيقته، يتصدر المشهد. ذلك لأن المعرفة الشخصية تُشعرنا بأننا نعرف “الحق” ونعرف “الباطل”، فنشعر أن موازين الحياة مقلوبة حين يعلو الباطل على مرأى منا.
- المقارنة لا تشتعل إلا حين نشعر أن الزمن فاتنا: لو كنت في حالة جيدة، متوازن، مرتاح، منتج، فلن تؤذيك رؤية نجاح الآخرين. لكن حين تكون في لحظة ضعف، ينهشك الماضي والمستقبل، وتصبح المقارنة خنجراً مسموماً في القلب.
ثانياً: لماذا ينجح من لا يستحق؟ إجابة صادمة ولكن ضرورية
دعنا نواجه الحقيقة: كثيرون ممن نراهم “لا يستحقون” يحققون مكاسب دنيوية. لكن، هل هذا شيء جديد؟ من أيام فرعون، وقارون، وأبي جهل، مرّت البشرية بتجارب لا تحصى من “صعود الباطل”. لكن ما ننساه هو أن النجاح المادي أو المعنوي ليس دليلاً على الرضا الإلهي ولا على القيمة الحقيقية.
قال تعالى:
“لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ • مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ”
(آل عمران: 196-197)
ما نراه من شهرة ومال قد يكون “استدراجًا”، وقد يكون “فتنة”، وقد يكون نتيجة استخدام وسائل غير نظيفة لم يكن ضميرك أنت ليقبل بها.
ثالثاً: كيف تتخلص من المقارنة عمليًا؟
1. أغلق النوافذ التي تؤذيك
أنت لست مضطرًا أن ترى أخبارهم، ولا صورهم، ولا مقاطعهم. لا تقل “أريد أن أعرف ما يفعلون”. اسأل نفسك:
“هل هذه المعرفة تُشعل فيّ شيئًا طيبًا؟ أم أنها توجعني وتكسرني؟”
أغلق تلك النوافذ، سواء كانت على يوتيوب، فيسبوك، إنستغرام، أو حتى دردشات الأصدقاء. امنح نفسك حق الحماية.
2. واجه حزنك بدلًا من إنكاره
من الطبيعي أن تشعر بالضعف، بالحزن، بالخوف من ضياع العمر. لكن لا تخجل من هذه المشاعر ولا تقمعها. بل قل لنفسك بصراحة:
“أنا موجوع لأنني أظن أن جهدي ضاع، وأنا أحتاج أن أعيد ربط نفسي بالمعنى الأعمق للحياة.”
هذا الاعتراف أول طريق التعافي.
3. غيّر تعريفك للنجاح
هل النجاح هو المال والشهرة فقط؟
هل من يعيش تحت الأضواء هو سعيد بالضرورة؟
هل من يُصفق له الناس ينام قرير العين؟
بالضبط، هذا اعتراض واقعي ومؤلم، ويجب أن يُجاب عليه بصدق. إليك الجواب الذي يمكن إدراجه مباشرةً في المقال، تحت الفقرة التي تقول:
هل النجاح هو المال والشهرة فقط؟
هل من يعيش تحت الأضواء هو سعيد بالضرورة؟
هل من يُصفق له الناس ينام قرير العين؟وقد يقول قائل هنا:
“لكنني أنا أيضاً لا أنام قرير العين، رغم أنني صادق وأمين، ولست تحت الأضواء. فهل يعني هذا أن مَن تحت الأضواء أفضل حالاً مني؟ على الأقل هو سعيد أو يبدو كذلك، أما أنا فأعاني بصمت!”
والجواب:
نعم، قد لا تكون مرتاحاً ولا نائماً قرير العين، لكن الفرق الجوهري أن ما تمر به أنت هو ألم نقي وصادق، ناتج عن صراع شريف مع الحياة. أما من يعيش على الأضواء، فربما يكون قد اشترى راحته المؤقتة بثمن باهظ: ضياع القيم، التمثيل، التلون، وربما بيع ضميره. أنت تتألم لأنك ترى التناقض، وتشعر بالخذلان، وتحاول أن تبقى طاهراً وسط زيفٍ عام. وهذا الألم، وإن كان موجعاً، ليس دليلاً على فشلك، بل على إنسانيتك ووعيك.
أما ما يبدو عليه غيرك من سعادة، فهو في الغالب صورة منتقاة، معدَّلة، مفلترة… سعادة معروضة للبيع لا أكثر.
قد يكون مرتاحاً ظاهرياً، لكنه سيُحاسب على كل طريق سلكه، تماماً كما ستحاسب أنت على صبرك وثباتك. الفارق في النهاية ليس في راحة اليوم، بل في قيمة الطريق ومعناه.
لا تقارن ألمك الحقيقي بفرح مزيف.
ولا تُقزِّم صدقك في مواجهة نجاح أجوف.
4. ابدأ بشيء صغير جداً يُعيدك لنفسك
لا تظن أن التغيير يأتي بانقلاب مفاجئ. فقط ابدأ اليوم بخطوة واحدة:
- أكتب صفحة واحدة عن شيء تحبه.
- اصنع فيديو قصيرًا يعبر عنك.
- علّم أحدًا شيئًا تعرفه.
- اقرأ 10 دقائق في كتاب حي القلب.
- مارس التأمل أو الدعاء في لحظة صفاء.
كل هذه ليست “علاجًا نفسياً” فقط، بل هي أفعال تعيد ربطك بالحياة وتخرجك من قوقعة المقارنة.
رابعاً: المرض الجسدي والنفسي… حين يتكلم الجسد بالحزن
حين تنهار داخليًا، يبدأ الجسد بالتكلم. أوجاعك، ضعفك، أمراضك، ليست دائمًا عضوية بحتة. بل هي رسائل من نفسك إليك.
الدواء الحقيقي يبدأ من السلام الداخلي.
اسأل نفسك:
- هل أتناول طعامي بعجلة وبلا وعي؟
- هل أمارس أي نشاط بدني؟
- هل أنام وأنا مثقل بالحزن والتفكير؟
ابدأ من هنا. غيّر شيئًا بسيطًا في نمط حياتك. مشي لمدة 20 دقيقة يوميًا يمكنه أن يغيّر كيمياء الدماغ ويقلل التوتر والهم.
خامساً: استعد صورتك أمام نفسك
حين تُقارن، فإنك تنسى من تكون.
تتذكر فقط أنهم “صعدوا” وأنت “تراجعت”.
لكن اسأل نفسك بصدق:
- من منهم حافظ على مبدئه؟
- من منهم واجه المرض والخذلان وبقي واقفًا؟
- من منهم لم يبع ضميره؟
ربما أنت لا تملك مالاً، ولا شهرة، لكنك تملك تاريخًا من الصدق، والمعاناة، والثبات، وهذا في ميزان الله أعظم من كل جماهير العالم.
سادساً: المعركة الحقيقية ليست معهم، بل مع “الفكرة”
الحقيقة: هم ليسوا أعداءك.
العدو الحقيقي هو “الفكرة” التي تربط بين القيمة الإنسانية و”النتائج الظاهرة”.
كلما فككت هذه الفكرة من داخلك، كلما تحررت.
قل لنفسك:
“أنا لست فاشلاً لأنني لا أملك جمهورًا.
أنا لست ضعيفًا لأنني أمرض.
أنا لست تافهًا لأنهم لم يصفقوا لي.
أنا إنسان، أقاتل معركة الحياة بشرف. وهذا وحده كافٍ.”وقد يقول قائل:
“هذا مجرد كلام نضحك به على أنفسنا. هل سأشعر بالسعادة فقط لأنني رددت هذه العبارات؟ هذا أسلوب طفولي لا يليق بإنسان ناضج في منتصف العمر أكلته السنون!”والجواب:
لا، هذه الكلمات وحدها لن تصنع لك الراحة والسعادة فجأة.
ولن تُنهي سنوات التعب والخذلان بكلمات جميلة فقط.
لكنها ليست محاولة للضحك على النفس، بل محاولة لتذكيرها بقيمتها التي نُسيت تحت ركام الإحباط.النضج لا يعني أن نستسلم للمرارة.
النضج هو أن تعترف أن الحياة كانت قاسية، وأنك تألمت، لكنك لا تزال تحاول أن تفهم، وتعيد بناء نفسك، لا أن تنهار وتلعن كل شيء.نعم، نحن نعرف أن القول وحده لا يكفي.
لكن الصمت الداخلي الذي تُغرق فيه نفسك دون أن تذكّرها بمعناها، هذا هو ما يُنضج الحزن حتى يتحول إلى اكتئاب مزمن.
هذه العبارات ليست سحرًا، لكنها بذرة. إن رددتها اليوم وسعيت لها غدًا، وصبرت عليها بعد غد، قد تُنبت شيئًا من السلام الداخلي.أن تقول “أنا أقاتل معركة الحياة بشرف” لا يعني أنك تنكر الألم.
بل يعني أنك تعترف به، وتمنحه مكانه، دون أن تسمح له أن يسحقك نهائيًا.
وهذا، والله، ليس طفولية…
بل شجاعة الكبار الذين لا زالوا واقفين رغم كل ما سقط فيهم.
ختامًا:
ليس من السهل أن ترى غيرك يصعد، وأنت في قاع المرض والوحدة. لكنك لست وحدك. كثيرون مثلك، لا يملكون صوتًا، لكنهم أنقياء، طيبون، مخلصون. وقد لا يكون للضوء الخارجي نصيب في حياتهم، لكن نورهم في الداخل. ومع الوقت، إن حافظت على نفسك، على مبادئك، وعلى إبداعك — سيأتي يوم ترى فيه أن ما بُني على صدق، هو وحده ما يبقى.